الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر (نسخة منقحة)
.النوع السابع والعشرون: في التضمين: وهذا النوع فيه نظر بين حسن يكتسب به الكلام طلاوة وبين معيب عند قوم، وهو عندهم معدود من عيوب الشعر، ولكل من هذين القسمين مقام.فأما الحسن الذي يكتسب به الكلام طلاوة فهو: أن يضمن الآيات والأخبار النبوية، وذلك يرد على وجهين: أحدهما تضمين كلي، والآخر تضمين جزئي.فأما التضمين الكلي فهو: أن تذكر الآية والخبر بجملتهما، وأما التضمين الجزئي فهو: أن تدرج بعض الآية والخبر في ضمن كلام، فيكون جزأ منه كالذي أوردته في حل الآيات والأخبار في الفصل العاشر من مقدمة الكتاب، وقد قيل: إنه لا يجوز درج آيات القرآن الكريم في غضون الكلام من غير تبيين، كي لا يشتبه، وهذا القول لا أقول به، فإن القرآن الكريم أبين من أن يحتاج إلى بيان، وكيف يخفى وهو المعجز الذي لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله لا يأتون بمثله، فإن كانت المفاوضة في التفرقة بينه وبين غيره من الكلام إذا أدرج فيه مع جاهل لا يعرف الفرق فذاك لا كلام معه، وإن كان الكلام مع عالم بذلك فذاك لا يخفي عنه القرآن الكريم من غيره.ومذهبي في هذا هو ما تقدم ذكره في الفصل العاشر من مقدمة الكتاب، وهو أحسن الوجهين عندي، وذاك أنه لا تؤخذ الآية بكمالها، بل يؤخذ جزء منها ويجعل أولاً لكلام أو آخرا، هذا إذا لم يقصد به التضمين، فأما إذا قصد التضمين فتؤخذ الآية بكمالها وتدرج درجا، وهذا ينكره من لم يذق ما ذقته من طعم البلاغة ولا رأى ما رأيته.وأما المعيب عند قوم فهو تضمين الإسناد، وذلك يقع في بيتين من الشعر، أو فصلين من الكلام المنثور، على أن يكون الأول منهما مسندا إلى الثاني فلا يقوم الأول بنفسه، ولا يتم معناه إلا بالثاني، وهذا هو المعدود من عيوب الشعر، وهو عندي غير معيب، لأنه إن كان سبب عيبه أن يعلق البيت الأول على الثاني فليس ذلك بسبب يوجب عيبا، إذ لا فرق بين البيتين من الشعر في تعلق أحدهما بالآخر وبين الفقرتين من الكلام المنثور في تعلق إحداهما بالأخرى، لأن الشعر هو: كل لفظ موزون مقفى دل على معنى، والكلام المسجوع هو: كل لفظ مقفى دل على معنى، فالفرق بينهما يقع في الوزن لا غير.والفقر المسجوعة التي يرتبط بعضها ببعض، قد وردت في القرآن الكريم في مواضع منه، فمن ذلك قوله عز وجل في سورة الصافات: {فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون قال قائل منهم إني كان لي قرين يقول أئنك لمن المصدقين أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمدينون} فهذه الفقر الثلاث الأخيرة مرتبط بعضها ببعض، فلا تفهم كل واحدة منهن إلا بالتي تليها، وهذا كالأبيات الشعرية في ارتباط بعضها ببعض، ولو كان عيبا لما ورد في كتاب الله عز وجل.وكذلك ورد قوله تعالى في سورة الصافات أيضا: {فإنكم وما تعبدون ما أنتم عليه بفاتنين إلا من هو صال الجحيم} فالآيتان الأوليان لا تفهم إحداهما إلا بالأخرى.وهكذا ورد قوله عز وجل في سورة الشعراء: {أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون} فهذه ثلاث آيات لا تفهم الأولى ولا الثانية إلا بالثالثة، ألا ترى أن الأولى والثانية في معرض استفهام يفتقر إلى جواب، والجواب هو في الثالثة.ومما ورد من ذلك شعرا قول بعضهم:ألا ترى أن البيت الأول لم يقم بنفسه ولا تم معناه إلا بالبيت الثاني: وقد استعمله العرب كثيرا، وورد في شعر فحول شعرائهم، فمن ذلك قول امرئ القيس: وكذلك ورد قول الفرزدق: وكذلك ورد قول بعض شعراء الحماسة: الضرب الثاني من التضمين: وهو أن يضمن الشاعر شعره والناثر نثره كلاما آخر لغيره، قصداً للاستعانة على تأكيد المعنى المقصود، ولو لم يذكر ذلك التضمين لكان المعنى تاما، وربما ضمن الشاعر البيت من شعره بنصف بيت، أو أقل منه، كما قال جحظة: ألا ترى أنه لو لم يقل في هذا البيت ذهب الذين يعاش في أكنافهم لكان المعنى تاما لا يحتاج إلى شيء آخر، فإن قوله: قم فاسقينها يا غلام وغنني فيه كفاية، إذ لا حاجة له إلى تعيين الغناء، لأن في ذلك زيادة على المعنى المفهوم لا على الغرض المقصود.وقد ورد هذا في عدة مواضع من شعر أبي نواس في الخمريات، كقوله في مخاطبة بعض خلطائه على مجلس الشراب: وكذلك قوله أيضا: وقد استعمل هذا الضرب كثيراً الخطيب عبد الرحمن بن نباتة رحمه الله، فمن ذلك قوله في بعض خطبه، وهو: فيأيها الغفلة المطرقون أما أنتم بهذا الحديث مصدقون، فما لكم منه لا تشفقون، فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون.وكذلك قوله في ذكر يوم القيامة، وهو: فيومئذ تغدو الخلائق على الله بهما، فيحاسبهم على ما أحاط به علما وينفذ في كل عامل بعمله حكما، وعت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلما.ألا ترى إلى براعة هذا التضمين الذي كأنه قد رصع في هذا الموضع رصعا.وعلى نحو من ذلك جاء قوله في ذكر يوم القيامة، وهو: هناك يقع الحساب على ما أحصاه الله كتابا، وتكون الأعمال المشوبة بالنفاق سرابا، يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا.ومما ينتظم بهذا السلك قوله في خطبة أخرى، وهو: أسكتهم الله الذي أنطقهم، وأبادهم الذي خلقهم وسيجدهم كما أخلقهم، ويجمعهم كما فرقهم، يوم يعيد الله العالمين خلقا جديدا، ويجعل الظالمين لنار جهنم وقودا، يوم تكونون شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا، يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا.ومن هذا الباب قوله أيضا: هنالك يرفع الحجاب، ويوضع الكتاب، ويجمع من وجب له الثواب، ومن حق عليه العقاب، فيضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب.وأمثال هذه التضمينات في خطبه كثيرة وهي من محاسن ما يجيء في هذا النوع. .النوع الثامن والعشرون: في الإرصاد: وحقيقته: أن يبني الشاعر البيت من شعره على قافية قد أرصدها له: أي أعدها في نفسه، فإذا أنشد صدر البيت عرف ما يأتي به في قافيته.وذلك من محمود الصنعة، فإن خير الكلام ما دل بعضه على بعض، وفي الافتخار بذلك يقول ابن نباتة السعدي:فمن هذا الباب قول النابغة: ألا ترى أنه يعلم إذا عرفت القافية في البيت الأول أن في البيت الثاني ذكر الشمال.وكذلك جاء قول البحتري: فليس يذهب على السامع وقد عرف البيت الأول وصدر البيت الثاني أن عجزه هو ما قاله البحتري.وقد جاء الإرصاد في الكلام المنثور كما جاء في الشعر، فمن ذلك قوله تعالى: {وما كان الناس إلى أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون} فإذا وقف السامع على قوله تعالى: {لقضي بينهم فيما فيه} عرف أن بعده: {يختلفون} لما تقدم من الدلالة عليه.ومن ذلك أيضاً قوله عز وجل: {فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} على نحو منه جاء قوله تعالى: {مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت} فإذا وقع السامع على قوله عز وجل: {وإن أوهن البيوت} يعلم أن بعده بيت العنكبوت.ورأيت أبا هلال العسكري قد سمى هذا النوع التوشيح، وليس كذلك بل تسميته بالإرصاد أولى، وذلك حيث ناسب الاسم مسماه، ولاق به وأما التوشيح فإنه نوع آخر من علم البيان، وسيأتي ذكره بعد هذا النوع إن شاء الله تعالى واعلم أنه قد اختلف جماعة من أرباب هذه الصناعة في تسمية أنواع علم البيان، حتى إن أحدهم يضع لنوع واحد منه اسمين، اعتقادا منه أن ذلك النوع نوعان مختلفان، وليس الأمر كذلك، بل هما نوع واحد.فممن غلط في ذلك الغانمي فإنه ذكر بابا من أبواب علم البيان وسماه التبليغ وقال: هو أن يأتي الشاعر بالمعنى في البيت تاما من غير أن يكون للقافية فيما ذكره صنع، ثم يأتي بها لحاجة الشعر إليها حتى يتم وزنه، فيبلغ بذلك الغاية القصوى في الجودة، كقول امرئ القيس: فإنه أتى بالتشبيه تاما قبل القافية، ثم لما جاء بها بلغ الأمد الأقصى في المبالغة.ثم إن الغانمي ذكر بعد هذا الباب بابا آخر، وسماه الإشباع، فقال: هو أن يأتي الشاعر بالبيت معلق القافية على آخر أجزائه، ولا يكاد يفعل ذلك إلا حذاق الشعراء، وذاك أن الشاعر إذا كان بارعا جلب بقدرته وذكائه وفطنته إلى البيت وقد تمت معانيه واستغنى عن الزيادة فيه قافية متممة لأعاريضه ووزنه فجعلها نعتا للمذكور، كقول ذي الرمة: هذا كلام الغانمي بعينه.والبابان المذكوران سواء، لا فرق بينهما بحال، والدليل على ذلك أن بيت امريء القيس يتم معناه قبل أن يؤتى بقافيته، وكذلك بيت ذي الرمة، ألا ترى أن امرأ القيس لما قال: أتى بالتشبيه أيضاً قبل أن يأتي بالقافية، ولما احتاج إليها جاء بزيادة حسنة وهي قوله لم يثقب، وهكذا ذو الرمة، فإنه لما قال: أتى بالتشبيه أيضاً قبل أن يأتي بالقافية، ولما احتاج إليها جاء بزيادة حسنة وهي المسلسل.واعلم أن أبا هلال العسكري قد سمى هذين القسمين بعينهما الإيغال، وقال: هو أن يستوفي الشاعر معنى الكلام قبل البلوغ إلى مقطعه، ثم يأتي بالمقطع فيزيد فيه معنى آخر، وأصل الإيغال من أوغل في الأمر، إذا أبعد الذهاب فيه، ثم مثل أبو هلال ذلك بقول ذي الرمة: البيت.وهذا أقرب أمرا من الغانمي، لأنه ذكره في باب واحد، وسماه باسم واحد، ولم يذكره في باب آخر كما فعل الغانمي، وليس الأخذ على الغانمي في ذلك مناقشة على الأسماء، وإنما المناقشة على أن ينتصب لإيراد علم البيان وتفصيل أبوبه، ويكون أحد الأبواب التي ذكرها داخلا في الآخر فيذهب عليه ويخفى عنه، وهو أشهر من فلق الصباح.وهاهنا ما هو أغرب من ذاك، وذلك أنه قد سلك قوم في منثور الكلام ومنظومه طرقا خارجة عن موضوع علم البيان، وهي بنجوة عنه، لأنهت في واد وعلم البيان في واد.فممن فعل ذلك الحريري صاحب المقامات، فإنه ذكر تلك الرسالة التي هي كلمة معجمة وكلمة مهملة، والرسالة التي حرف من حروف ألفاظها معجم والآخر غير معجم، ونظم غيره شعرا آخر كل بيت منه أول للبيت الذي يليه، وكل هذا وإن تضمن مشقة من الصناعة، فإنه خارج عن باب الفصاحة والبلاغة، لأن الفصاحة هي ظهور الألفاظ مع حسنها، على ما أشرت إليه في مقدمة كتابي هذا، وكذلك البلاغة فإنها الانتهاء في محاسن الألفاظ والمعاني، من قولنا بلغت المكان إذا انتهيت إليه، وهذا الكلام المصوغ بما أتى به الحريري في رسالته وأورده ذلك الشاعر في شعره لا يتضمن فصاحة ولا بلاغة، وإنما يأتي ومعانيه غثة باردة، وسبب ذلك أنها تستكره استكراها، وتوضع في غير مواضعها، وكذلك ألفاظه، فإنها تجيء مكرهة أيضاً غير ملائمة لأخواتها، وعلم البيان إنما هو الفصاحة والبلاغة في الألفاظ والمعاني، فإذا خرج عنه شيء من هذه الأوضاع المشار إليها لا يكون معدودا منه، ولا داخلا في بابه ولو كان ذلك مما يوصف بحسن ألفاظه ومعانيه لورد في كتاب الله عز وجل الذي هو معدن الفصاحة والبلاغة أو ورد في كلام العرب الفصحاء، ولم نره في شيء من أشعارهم ولا خطبهم.ولقد رأيت رجلا أديبا من أهل المغرب، وقد تغلغل في شيء عجيب وذاك أنه شجر شجرة ونظمها شعرا، وكل بيت من ذلك الشعر يقرأ على ضروب من الأساليب اتباعا لشعب تلك الشجرة وأغصانها، فتارة تقرأ كذا، وتارة تقرأ كذا، وتارة يكون جزء منه هاهنا، وتارة هاهنا، وتارة يقرأ مقلوبا، وكل ذلك الشعر وإن كان له معنى يفهم إلا أنه ضرب من الهذيان، والأولى به وبأمثاله أن يلحق بالشعبذة والمعالجة والمصارعة، لا بدرجة الفصاحة والبلاغة.ورأيت أبا محمد عبد الله بن سنان الخفاجي قد ذكر بابا من الأبواب في كتابه، فقال: ينبغي ألا تستعمل المنظوم والمنثور ألفاظ المتكلمين والنحويين والمهندسين، ومعانيهم، ولا الألفاظ التي تختص بها بعض المهن والعلوم، لأن الإنسان إذا خاض في علم وتكلم في صناعة وجب عليه أن يستعمل ألفاظ أهل ذلك العلم وأصحاب تلك الصناعة، ثم مثل ذلك بقول أبي تمام: وبقوله أيضا: وهذا الذي أنكره ابن سنان هو عين المعروف في هذه الصناعة: وسأبين فساد ما ذهب إليه، فأقول: أما قوله إنه يجب على الإنسان إذا خاض في علم أو تكلم في صناعة أن يستعمل ألفاظ أهل ذلك العلم وأصحاب تلك الصناعة فهذا مسلم إليه، ولكنه شذ عنه أن صناعة المنظوم والمنثور مستمدة من كل علم وكل صناعة، لأنها موضوعة على الخوض في كل معنى، وهذا لا ضابط له يضبطه، ولا حاصر يحصره، فإذا أخذ مؤلف الشعر أو الكلام المنثور في صوغ معنى من المعاني وأداه ذلك إلى استعمال معنى فقهي أو نحوي أو حسابي أو غير ذلك فليس له أن يتركه ويحيد عنه، لأنه من مقتضيات هذا المعنى الذي قصده، ألا ترى إلى قول أبي تمام في الاعتذار: فإن هذا من أحسن ما يجيء في باب الاعتذار عن الذنب، وكان ينبغي له على ما ذكره ابن سنان أن يترك ذلك ولا يستعمله، حيث فيه لفظتا الخطأ والعمد اللتان هما من أخص ألفاظ الفقهاء.وكذلك قول أبي الطيب المتنبي: وهذا من المعاني البديعة، وما كان ينبغي لأبي الطيب أن يأتي في مثل هذا الموضع بلفظة فذلك التي هي من ألفاظ الحساب، بل كان يترك هذا المعنى الشريف الذي لا يتم إلا بتلك اللفظة موافقة لابن سنان فيما رآه وذهب إليه، وهذا محض الخطأ وعين الغلط.وأما ما أنكره على أبي تمام في قوله: فإن هذا البيت ليس منكرا لما استعمل فيه من لفظتي الجوهر والعرض اللتين هما من خصائص ألفاظ المتكلمين، بل لأنه في نفسه ركيك، لتضمنه لفظة الشبه فإنها لفظة عامية ركيكة، وهي التي أسخفت بالبيت بجملته، ورب قليل أفسد كثيرا، وأما لفظتا الجوهر والعرض فلا عيب فيهما، ولا ركاكة عليهما.وأما البيت الآخر، وهو: فليس بمنكر، وهل يشك في أن التشبيه الذي تضمنه واقع في موقعه؟ ألا ترى أن الفعل ينقل الاسم من حال إلى حال، وكذلك تفعل الخمر بالعقول في تنقل حالاتها، فما الذي أنكره ابن سنان من ذلك؟ وقد جاء لبعض المتأخرين من هذا الأسلوب ما لا يدافع في حسنه، وهو قوله: فإنه لما حصل له المشابهة في الاسمية بين عوامل الرماح والعوامل النحوية حسن موقع ما ذكره من الخفض والنصب، وعلى ما ذكره ابن سنان فإن ذلك غير جائز، وهو من مستحسنات المعاني، هذا من أعجب الأشياء.وعلى هذا الأسلوب ورد قول بعضهم: وهل يشك في حسن هذا المعنى ولطافته؟ وكذلك ورد من هذا النوع في شعر بعض العراقيين يهجو طبيبا فقال: وهذا من المعنى الذي أغرب في الملاحة، وجمع بين خفة السخرية ووقار الفصاحة. وقد تقدم القول في صدر كتابي هذا أنه يجب على صاحب هذه الصناعة أن يتعلق بكل علم وكل صناعة، ويخوض في كل فن من الفنون، لأنه مكلف بأن يخوض في كل معنى من المعاني، فاضمم يدك على ما ذكرته ونصصت عليه، واترك ما سواه، فليس القائل بعلمه واجتهاده كالقائل بظنه وتقليده، وهذا النوع إذا استعمل على الوجه المرضي كان حسنا، وإذا استعمل بخلاف ذلك كان قبيحا، كما جاء كلام أبي العلاء بن سليمان المعري، وهو قوله في رسالة كتبها إلى بعض إخوانه: حرس الله سعادته ما أدغمت التاء في الظاء، وتلك سعادة بغير انتهاء، وهذا من الغث البارد، لكن قد جاءه في الشعر ما هو حسن فائق، كقوله: والخفض والنصب من الإعراب النحوي، والخفض: رفاهة العيش، والقطع: من منصوبات النحو، والقطع: قطع الشيء، يقال: قطعته إذا بترته. .النوع التاسع والعشرون: في التوشيح: وهو أن يبني الشاعر أبيات قصيدته على بحرين مختلفين، فإذا وقف من البيت على القافية الأولى كان شعرا مستقيما من بحر على عروض، وإذا أضاف إلى ذلك ما بنى عليه شعره من القافية الأخرى كان أيضاً شعرا مستقيما من بحر آخر على عروض، وصار ما يضاف إلى القافية الأولى للبيت كالوشاح، وكذلك يجري الأمر في الفقرتين من الكلام المنثور، فإن كان فقرة منهما تصاغ من سجعتين.وهذا لا يكاد يستعمل إلا قليلا وليس من الحسن في شيء، واستعماله في الشعر أحسن منه في الكلام المنثور، فمن ذلك قول بعضهم:وهذا من الجيد الذي يأتي في هذا النوع، إلا أن أثر التكلف عليه باد ظاهر، وإذا نظر إلى هذين البيتين وجدا وهما يذكران على قافية أخرى وبحر آخر، وذاك أن يقال: وقد استعمل ذلك الحرير في مقاماته، نحو قوله: واعلم أن هذا النوع لا يستعمل إلا متكلفا عند تعاطي التمكن من صناعة النظم، وحسنه منوط بما فيه من الصناعة، لا بما فيه من البراعة، ألا ترى أنه لو نظم عليه قصيد من أوله إلى آخره يتضمن غزلا ومديحا على ما جرت به عادة القصائد أليس أنه كان يجيء باردا غثا لا يسلم منه على محك النظر عشره؟ والعشر كثير، وما كان على هذه الصورة من الكلام فإنما يستعمل أحيانا على الطبع، لا على التكلف، وهو وأمثاله لا يحسن إلا إذا كان يسيرا، كالرقم في الثوب أو الشية في الجلد.
|